ربما تكون قضية الإسلام والغرب هي القضية الأولى للجاليات المسلمة المهاجرة للغرب، من حيث إن الضرر يمسهم مباشرة ويؤثر على حياتهم اليومية وعلى علاقاتهم مع وطنهم الجديد، ومن حيث مسؤوليتهم مع أطفالهم وكيف يشرحون الموقف لجيل صغير يتعرض لتحد معنوي عنيف وصادم، وكذلك من حيث إن الحلول متاحة عندهم قبل غيرهم.
والجاليات جاءت مختارة بمثل ما جاء بعضها مجبراً، وفي الحالين هم جالية مسلمة تحمل جنسية البلد الذي هم فيه، ولهم مثل ما عليهم من حقوق وواجبات كأي مواطن ومواطنة في تلك البلاد، وأقرب نموذج لهم هو الجالية اليهودية والجالية الأفريقية، وهما معاً مرا ويمران بظروف لا تختلف عن ظروف المسلمين من حيث التمييز ضدهم في الثقافة وفي المجتمع وفي الفرص وفي نوعيات المعاملة وفي تنميط النماذج.
وأهم القضايا هي قضايا الحقوق المعنوية، وهي أشد القضايا حساسية وتوتراً، ومنها قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام
وهذه قضية لها مثائل عند الجاليات الأخرى منها معاداة السامية وحادثة الهولوكوست، والتمييز العنصري ضد الأفارقة، وكان الحل لهذه القضايا هو الضغط المكثف من اليهود الذي اتصل واستدام وداوم إلى أن وصلوا لقوانين تجرم معاداة السامية وتجرم إنكار الهولوكوست، بينما الأفارقة حققوا مكاسب ضخمة في التمكين عبر مقاومتهم السلمية ومواصلة النضال حتى وصلوا لسن قوانين تحمي معنوياتهم.
والملحوظ أن المسلمين المهاجرين يهتمون بقضايا بلدانهم الأصلية وينشطون في ذلك نشاطاً قوياً، وهو أمر جيد وعلامة على المسؤولية الأخلاقية العالية كما هو نوع من البر والوفاء، وهذا أمر نبيل وعظيم، لكن الإشكال هو ضعف التحرك والمواجهة لظروف دار الهجرة، بينما النموذجان اليهودي والأفريقي ماثلان أمام الجميع، وهما معاً يمثلان طريقاً معبدة قابلة للتمثل والاستعانة الأخلاقية والقانونية قياسا على تماثل الحالات، وكما تجهد كل فئة من المهاجرين في خدمة قضايا بلدها الأم، فلماذا لا تجتهد مع سائر المهاجرين لخدمة معانيها الرمزية في بلدها المستضيف، وهذا طبعاً لا يعفي بقية الدول الإسلامية من دعم المهاجرين في قضاياهم السلمية والحقوقية، خاصة أن هذه الأمور مشتركة وتمس معنويات الكل، وهي بالتالي قضية إنسانية عامة من حيث إن معاني الحرية تقوم على المساواة وعلى التعددية الثقافية، فحقوق التعدد والتنوع الثقافي والعرقي والديني تتآزر مع حقوق المساواة بمستواها المعنوي فما يضر معنويات الأفارقة أو معنويات اليهود يضر كذلك بالمسلمين حين يكون لهم معنويات تتعرض للضرر العظيم والمؤلم، وكما جرى تعديل مفردات اللغة الخاصة بوصف السود أو وصف ذوي الاحتياجات الخاصة أو مراعاة لغة الحديث عن اليهود وعن النساء، وأصبحت هذه جزءاً من العرف والذوق الاجتماعي بمثل ما هي جزء من الحقوق والمسائلة القانونية، والمساس برسولنا الكريم سيكون على رأس الأولويات بما أن هذا يمس عقيدة ملايين المسلمين في كل بلد أوروبي وفي أميركا كذلك، وهم مواطنون لهم حقوق ولهم معنويات مثل أي أقليات أخرى
ولن يصح توظيف مصطلح حرية التعبير هنا لأنه أولاً لم يصح في حق اليهود ولا في حقوق الأفارقة، ولا في حق ذوي الاحتياجات الخاصة حين يجري تجريم عبارات وصيغ معينة أو رسومات تمس معاني هذه الفئات سخريةً منها أو تشويهاً لها، والحرية لا تعني بحال أن تسيء لمشاعر الآخرين ومعتقداتهم، ولا حرية حينما يكون الأمر عن الهولوكوست أو معاداة السامية أو وصف الأفريقي بصفات تمس معنوياته، والحرية بمعناها الاصطلاحي لم تك قط حرية فردية، وإنما هي صفقة اجتماعية تعتمد على مقولة (أن يفعل الفرد كل ما لا يضير غيره)، حسب تعريف مونتسكيو لها، ولو استخدم الواحد منا حريته أمام إشارة المرور ولم يتوقف من أجل غيره فإنه هنا يجرم في حق التعايش المجتمعي وسيحاسب قانونياً على جنحته هذه، والرسوم المسيئة ليست تعدياً على معنويات ومعتقدات الغير فحسب، بل هي أيضاً تحريض على العنف، والرسام نفسه يعرف سلفاً أن رسومه ستسبب رد فعل عنيف، وكونه لا يجهل هذا فهو هنا شريك للإرهابي الذي مارس عنفه بسبب تلك الرسوم، وكلا الفعلين جرم واضح، وإنْ كان أحدهما جرماً معنوياً، والآخر قتلاً، ولكن من سيقول إن الجرم المعنوي أقل ضرراً من جريمة القتل، وهي عبارة لن يقولها الضحية ولكن المعتدي وحده هو الذي سيقولها، أو من يبرر للمعتدي، وحينها سيتساوى التبرير للإرهابي مع التبرير للرسام، لأن التبرير في كليهما يغفل الضرر الواقع على الغير، وفي الحالين فالتبرير لا يصدر عن فكر سليم أو عن ضمير عادل، والعجيب أن هذا النوع من التبريرات لا يأتي حين تكون الرسمة عن أفريقي أو هندي أحمر، وهنا فإن رسم نبي الإسلام بصورة عمامة على شكل قنبلة فيها فتيل للتفجير ليس إلا عدواناً معنوياً وحكماً على الإسلام كله أنه دين إرهابي، وأن نبيه إرهابي، وأن الإرهاب معنى إسلامي، وهذه أحكام جائرة، وتسبب ردود فعل تتنوع، وقد تصل لدرجات خطيرة، كما حدث في فرنسا.
ويظل الاستهزاء برموز غيرك ليس حقاً لك، ولكنه إهانة لغيرك دون أي وازع أخلاقي أو إنساني، ويحب أن يكون القانون هو الحكم هنا، وقد حكمت المحكمة الأوروبية أن الإساءة للرسول ليست حرية تعبير. ويتبقى أن تأتي قوانين تحاسب المعتدي كما تحاسب معادي السامية ومنكر الهولوكوست، وكل هذه حقوق للأقليات المواطنة في بلاد أوروبا كلها وفي أميركا. ولا حل دون أن تتحرك الجاليات المسلمة لتفعيل قرار المحكمة الأوروبية وتحويله لقانون يحمي الحقوق المعنوية لهذه الجاليات التي لها حقوق في المواطنة تماثل حقوق الجاليات الأخرى التي نالت حقوقها المعنوية بقوانين معتمدة. وإن كنا كلنا نتفق على تجريم الإرهاب وضرورة مواجهته بكل السبل، فإن الإساءة للرسول أيضاً عدوان معنوي غاشم، على أن قرن اسم الرسول وصورته مع صورة الإرهابي جرم عظيم بكل الحقوق الإنسانية، ويجب الجهر بهذا من أجل تحريك وعي سلمي ومعنوي حقوقي للكل دون تمييز أو تحيز أو استهتار بمعنويات البشر.
*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية / جامعة الملك سعود ، الرياض.